كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إن الجهاد لم يكتب على المرأة، لأنها تلد الرجال الذين يجاهدون. وهي مهيأة لميلاد الرجال بكل تكوينها، العضوي والنفسي؛ ومهيأة لإعدادهم للجهاد وللحياة سواء. وهي- في هذا الحقل- أقدر وأنفع.. هي أقدر لأن كل خلية في تكوينها معدة من الناحية العضوية والناحية النفسية لهذا العمل؛ وليست المسألة في هذا مسألة التكوين العضوي الظاهر؛ بل هي- وعلى وجه التحديد- كل خلية منذ تلقيح البويضة، وتقرير أن تكون أنثى أو ذكرًا من لدن الخالق سبحانه ثم يلي ذلك تلك الظواهر العضوية، والظواهر النفسية الكبرى.. وهي أنفع- بالنظر الواسع إلى مصلحة الأمة على المدى الطويل- فالحرب حين تحصد الرجال وتستبقي الإناث؛ تدع للأمة مراكز إنتاج للذرية تعوض الفراغ. والأمر ليس كذلك حين تحصد النساء والرجال- أو حتى حين تحصد النساء وتستبقي الرجال! فرجل واحد- في النظام الإسلامي- وعند الحاجة إلى استخدام كل رخصه وإمكانياته- يمكن أن يجعل نساء أربعًا ينتجن، ويملأن الفراغ الذي تتركه المقتلة بعد فترة من الزمان.
ولكن ألف رجل لا يملكون أن يجعلوا امرأة تنتج أكثر مما تنتج من رجل واحد، لتعويض ما وقع في المجتمع من اختلال. وليس ذلك إلا بابًا واحدًا من أبواب الحكمة الإلهية في إعفاء المرأة من فريضة الجهاد... ووراءه أبواب شتى في أخلاق المجتمع وطبيعة تكوينه، واستبقاء الخصائص الأساسية لكلا الجنسين، لا يتسع لها المجال هنا، لأنها تحتاج إلى بحث خاص.. وأما الأجر والثواب، فقد طمأن الله الرجال والنساء عليه، فحسب كل إنسان أن يحسن فيما وكل إليه ليبلغ مرتبة الإحسان عند الله على الإطلاق..
والأمر في الميراث كذالك.. ففي الوهلة الأولى يبدو أن هناك إيثارًا للرجل في قاعدة: {فللذكر مثل حظ الأنثيين}.. ولكن هذه النظرة السطحية لا تفتأ أن تتكشف عن وحدة متكاملة في أوضاع الرجل والمرأة وتكاليفهما.. فالغنم بالغرم، قاعدة ثابتة متكاملة في المنهج الإسلامي.. فالرجل يؤدي للمرأة صداقها ابتداء ولا تؤدي هي له صداقًا. والرجل ينفق عليها وعلى أولادها منه. وهي معفاة من هذا التكليف، ولو كان لها مال خاص- وأقل ما يصيب الرجل من هذا التكليف أن يحبس فيه إذا ماطل!!- والرجل عليه في الديات والأرش (التعويض عن الجراحات) متكافلًا مع الأسرة، والمرأة منها معفاة. والرجل عليه في النفقة على المعسرين والعاجزين والعواجز عن الكسب في الأسرة- الأقرب فالأقرب- والمرأة معفاة من فريضة التكافل العائلي العام.. حتى أجر رضاع طفلها من الرجل وحضانته عند افتراقهما في المعيشة، أو عند الطلاق، يتحملها الرجل، ويؤديها لها كنفقتها هي سواء بسواء.. فهو نظام متكامل توزيع التبعات فيه هو الذي يحدد توزيع الميراث. ونصيب الرجل من التبعات أثقل من نصيبه في الميراث. ومنظور في هذا إلى طبيعته وقدرته على الكسب؛ وإلى توفير الراحة والطمأنينة الكاملة للمرأة، لتقوم على حراسة الرصيد البشري الثمين؛ الذي لا يقوّم بمال، ولا يعد له إنتاج أية سلعة أو أية خدمة أخرى للصالح العام!
وهكذا نجد معالم التوازن الشامل، والتقدير الدقيق في المنهج الإسلامي الحكيم، الذي شرعه الحكيم العليم..
ونسجل هنا ما منحه الإسلام للمرأة في هذا النص من حق الملكية الفردية: {للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن}..
وهو الحق الذي كانت الجاهلية العربية- كغيرها من الجاهليات القديمة- تحيف عليه؛ ولا تعترف به للمرأة- إلا في حالات نادرة- ولا تفتأ تحتال للاعتداء عليه. إذ كانت المرأة ذاتها مما يستولى عليه بالوراثة، كالمتاع!
وهو الحق الذي ظلت الجاهليات الحديثة- التي تزعم أنها منحت المرأة من الحقوق والاحترام ما لم يمنحه لها منهج آخر- تتحيفه؛ فبعضها يجعل الميراث لأكبر وارث من الذكور. وبعضها يجعل إذن الولي ضروريًا لتوقيع أي تعاقد للمرأة بشأن المال؛ ويجعل إذن الزوج ضروريًا لكل تصرف مالي من الزوجة في مالها الخاص! وذلك بعد ثورات المرأة وحركاتها الكثيرة؛ وما نشأ عنها من فساد في نظام المرأة كله، وفي نظام الأسرة، وفي الجو الأخلاقي العام.
فأما الإسلام فقد منحها هذا الحق ابتداء؛ وبدون طلب منها، وبدون ثورة، وبدون جمعيات نسوية، وبدون عضوية برلمان!! منحها هذا الحق تمشيًا مع نظرته العامة إلى تكريم الإنسان جملة؛ وإلى تكريم شِقَّيْ النفس الواحدة؛ وإلى إقامة نظامه الاجتماعي كله على أساس الأسرة؛ وإلى حياطة جو الأسرة بالود والمحبة والضمانات لكل فرد فيها على السواء.
ومن هنا كانت المساواة في حق التملك وحق الكسب بين الرجال والنساء من ناحية المبدأ العام.
وقد أورد الدكتور عبد الواحد وافي في كتاب [حقوق الإنسان] لفتة دقيقة إلى وضع المرأة في الإسلام ووضعها في الدول الغربية جاء فيه:
وقد سوى الإسلام كذلك بين الرجل والمرأة أمام القانون، وفي جميع الحقوق المدنية سواء في ذلك المرأة المتزوجة وغير المتزوجة. فالزواج في الإسلام يختلف عن الزواج في معظم أمم الغرب المسيحي، في أنه لا يفقد المرأة اسمها ولا شخصيتها المدنية، ولا أهليتها في التعاقد، ولا حقها في التملك. بل تظل المرأة المسلمة بعد زواجها محتفظة باسمها واسم أسرتها، وبكامل حقوقها المدنية؛ وبأهليتها في تحمل الالتزامات، وإجراء مختلف العقود، من بيع وشراء ورهن وهبة ووصية؛ وما إلى ذلك؛ ومحتفظة بحقها في التملك تملكًا مستقلًا عن غيرها. فللمرأة المتزوجة في الإسلام شخصيتها المدنية الكاملة، وثروتها الخاصة المستقلة عن شخصية زوجها وثروته. ولا يجوز للزوج أن يأخذ شيئًا من مالها- قل ذلك أو كثر- قال تعالى: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا. أتأخذونه بهتانًا وإثمًا مبينًا وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا} وقال: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا}. وإذا كان لا يجوز للزوج أن يأخذ شيئًا مما سبق أن آتاه لزوجته فلا يجوز له من باب أولى أن يأخذ شيئًا من ملكها الأصيل إلا أن يكون هذا أو ذاك برضاها، وعن طيب نفس منها. وفي هذا يقول الله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا} ولا يحل للزوج كذلك أن يتصرف في شيء من أموالها، إلا إذا أذنت له بذلك، أو وكلته في إجراء عقد بالنيابة عنها. وفي هذه الحالة يجوز أن تلغي وكالته، وتوكل غيره إذا شاءت.
وهذه المنزلة من المساواة لم يصل إلى مثلها- بعد- أحدث القوانين في أرقى الأمم الديمقراطية الحديثة. فحالة المرأة في فرنسا كانت إلى عهد قريب- بل لا تزال إلى الوقت الحاضر- أشبه شيء بحالة الرق المدني.
فقد نزع منها القانون صفة الأهلية في كثير من الشئون المدنية، كما تنص على ذلك المادة السابعة عشرة بعد المائتين من القانون المدني الفرنسي. إذ تقرر أن: المرأة المتزوجة- حتى ولو كان زواجها قائمًا على أساس الفصل بين ملكيتها وملكية زوجها- لا يجوز لها أن تهب، ولا أن تنقل ملكيتها، ولا أن ترهن، ولا أن تمتلك بعوض أو بغير عوض، بدون اشتراك زوجها في العقد، أو موافقته عليه موافقة كِتَابِيَّة!.. وأورد نصها الفرنسي.
ومع ما أدخل على هذه المادة من قيود وتعديلات، فيما بعد، فإن كثيرًا من آثارها لا يزال ملازمًا لوضع المرأة الفرنسية من الناحية القانونية إلى الوقت الحاضر.. وتوكيدًا لهذا الرق المفروض على المرأة الغربية تقرر قوانين الأمم الغربية، ويقضي عرفها، أن المرأة بمجرد زواجها تفقد اسمها واسم اسرتها، فلا تعود تسمى فلانة؛ بنت فلان؛ بل تحمل اسم زوجها وأسرته؛ فتدعى مدام فلان أو تتبع اسمها باسم زوجها وأسرته، بدلًا من أن تتبعه باسم أبيها وأسرتها.. وفقدان اسم المرأة، وحملها لاسم زوجها، كل ذلك يرمز إلى فقدان الشخصية المدنية للزوجة، واندماجها في شخصية الزوج.
ومن الغريب أن الكثير من سيداتنا يحاولن أن يتشبهن بالغربيات- حتى في هذا النظام الجائر- ويرتضين لأنفسهن هذه المنزلة الوضيعة؛ فتسمي الواحدة منهن نفسها باسم زوجها؛ أو تتبع اسمها باسم زوجها وأسرته، بدلًا من أن تتبعه باسم أبيها وأسرتها، كما هو النظام الإسلامي، وهذا هو أقصى ما يمكن أن تصل إليه المحاكاة العمياء! وأغرب من هذا كله أن اللاتي يحاكين هذه المحاكاة! هن المطالبات بحقوق النساء، ومساواتهن بالرجال؛ ولا يدرين أنهن بتصرفهن هذا يفرطن في أهم حق منحه الإسلام لهن؛ ورفع به شأنهن، وسواهن فيه بالرجال.
والآن نجيء إلى النص الأخير في هذه الفقرة؛ وهو ينظم التصرف في عقود الولاء التي سبقت أحكام الميراث. هذه الأحكام التي حصرت الميراث في القرابة. بينما عقود الولاء كانت تجعلها كذلك في غير القرابة على ما سيأتي بيانه: {ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم. إن الله كان على كل شيء شهيدًا}..
بعد أن ذكر أن للرجال نصيبًا مما اكتسبوا، وللنساء نصيبًا مما اكتسبن.. وبين- فيما سلف- أنصبة الذكور والإناث في الميراث.. ذكر أن الله جعل لكل موالي من قرابته يرثونه. يرثونه مما آل إليه من الوالدين والأقربين.. فالمال يظل يتداول بهذا الإرث جيلًا بعد جيل. يرث الوارثون ثم يضمون إلى ميراثهم ما يكتسبون؛ ثم يرثهم من يلونهم من الأقربين.. وهي صورة تمثل دورة المال في النظام الإسلامي؛ وأنها لا تقف عند جيل؛ ولا تتركز في بيت ولا فرد.
إنما هو التوارث المستمر، والتداول المستمر، وحركة التوزيع الدائبة؛ وما يتبعها من تعديل في المالكين، وتعديل في المقادير، بين الحين والحين..
ثم عطف على العقود، التي أقرتها الشريعة الإسلامية؛ والتي تجعل الإرث يذهب أحيانًا إلى غير الأقرباء.. وهي عقود الموالاة.. وقد عرف المجتمع الإسلامي أنواعًا من هذه العقود:
الأول عقد ولاء العتق، وهو النظام الذي يصبح بمقتضاه الرقيق- بعد عتقه- بمنزلة العضو في أسرة مولاه (مولى العتق) فيدفع عنه المولى الدية، إذا ارتكب جناية توجب الدية- كما يفعل ذلك حيال أقربائه من النسب- ويرثه إذا مات ولم يترك عصبة..
والثاني عقد الموالاة. وهو النظام الذي يبيح لغير العربي- إذا لم يكن له وارث من أقاربه- أن يرتبط بعقد مع عربي هو (مولى الموالاة). فيصبح بمنزلة عضو في أسرة مولاه. يدفع عنه المولى الدية- إذا ارتكب جناية توجب الدية- ويرثه إذا مات.
والنوع الثالث، هو الذي عقده النبي صلى الله عليه وسلم أول العهد بالمدينة، بين المهاجرين والأنصار. فكان المهاجر يرث الأنصاري، مع أهله- كواحد منهم- أو دون أهله إن كانوا مشركين فصلت بينهم وبينه العقيدة..
والنوع الرابع.. كان في الجاهلية، يعاقد الرجل الرجل، ويقول: وترثني وأرثك.
وقد جعل الإسلام يصفي هذه العقود؛ وبخاصة النوعين الثالث والرابع. بتقرير أن الميراث سببه القرابة. والقرابة وحدها. ولكنه لم يبطل العقود التي سبق عقدها. فأمضاها على ألا يجدد سواها. وقال الله سبحانه: {والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم}.
وشدد في هذا وأشهد الله على العقد وعلى التصرف فيه: {إن الله كان على كل شيء شهيدًا}.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حلف في الإسلام. وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة» (رواه أحمد ومسلم).
وقد سار الإسلام في تصفية هذه العقود سيرته في كل ما يتعلق بالأنظمة المالية، في علاجه لها- بدون أثر رجعي- فهكذا صنع في الربا حين أبطله. أبطله منذ نزول النص، وترك لهم ما سلف منه؛ ولم يأمر برد الفوائد الربوية. وإن كان لم يصحح العقود السابقة على النص، ما لم يكن قد تم قبض تلك الفوائد. فأما هنا فقد احترم تلك العقود؛ على ألا ينشأ منها جديد. لما يتعلق بها- فوق الجانب المالي- من ارتباطات أخذت طابع العضوية العائلية بتشابكاتها الكثيرة المعقدة. فترك هذه العقود القائمة تنفذ؛ وشدد في الوفاء بها؛ وقطع الطريق على الجديد منها؛ قبل أن تترتب عليه أية آثار تحتاج إلى علاج!
وفي هذا التصرف يبدو التيسير، كما يبدو العمق والإحاطة والحكمة والشمول، في علاج الأمور في المجتمع.